سورة النبأ - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النبأ)


        


{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: {كُلَّ} منصوب بفعل مضمر يفسره {أحصيناه} والمعنى: وأحصينا كل شيء وقرأ أبو السمال، وكل بالرفع على الابتداء.
المسألة الثانية: قوله: {وَكُلَّ شيْء أحصيناه} أي علمنا كل شيء كما هو علماً لا يزول ولا يتبدل، ونظيره قوله تعالى: {أحصاه الله وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6] واعلم أن هذه الآية تدل على كونه تعالى عالماً بالجزئيات، واعلم أن مثل هذه الآية لا تقبل التأويل: وذلك لأنه تعالى ذكر هذا تقريراً لما ادعاه من قوله: {جَزَاءً وفاقا} [النبأ: 26] كأنه تعالى يقول: أنا عالم بجميع ما فعلوه، وعالم بجهات تلك الأفعال وأحوالها واعتباراتها التي لأجلها يحصل استحقاق الثواب والعقاب، فلا جرم لا أوصل إليهم من العذاب إلا قدر ما يكون وفاقاً لأعمالهم، ومعلوم أن هذا القدر إنما يتم لو ثبت كونه تعالى عالماً بالجزئيات، وإذا ثبت هذا ظهر أن كل من أنكره كان كافراً قطعاً.
المسألة الثالثة: قوله: {أحصيناه كتابا} فيه وجهان:
أحدهما: تقديره أحصيناه إحصاء، وإنما عدل عن تلك اللفظة إلى هذه اللفظة، لأن الكتابة هي النهاية في قوة العلم، ولهذا قال عليه السلام قيدوا العلم بالكتابة فكأنه تعالى قال: وكل شيء أحصيناه إحصاء مساوياً في القوة والثبات والتأكيد للمكتوب، فالمراد من قوله كتاباً تأكيد ذلك الإحصاء والعلم، واعلم أن هذا التأكيد إنما ورد على حسب مايليق بأفهام أهل الظاهر، فإن المكتوب يقبل الزوال، وعلم الله بالأشياء لا يقبل الزوال لأنه واجب لذاته القول الثاني: أن يكون قوله كتاباً حالاً في معنى مكتوباً والمعنى وكل شيء أحصيناه حال كونه مكتوباً في اللوح المحفوظ، كقوله: {وَكُلَّ شيْءٍ أحصيناه فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} أو في صحف الحفظة.
ثم قال تعالى:


{فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال العقاب أولاً، ثم ادعى كونه {جَزَاءً وفاقا} [النبأ: 26] ثم بين تفاصيل أفعالهم القبيحة، وظهر صحة ما ادعاه أولاً من أن ذلك العقاب كان {جَزَاءً وفاقا} لا جرم أعاد ذكر العقاب، وقوله: {فَذُوقُواْ} والفاء للجزاء، فنبه على أن الأمر بالذوق معلل بما تقدم شرحه من قبائح أفعالهم، فهذا الفاء أفاد عين فائدة قوله: {جَزَاءً وفاقا}.
المسألة الرابعة: هذه الآية دالة على المبالغة في التعذيب من وجوه:
أحدها: قوله: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ} وكلمة لن للتأكيد في النفي.
وثانيها: أنه في قوله: {كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} [النبأ: 27] ذكرهم بالمغايبة وفي قوله: {فَذُوقُواْ} ذكرهم على سبيل المشافهة وهذا يدل على كمال الغضب.
وثالثها: أنه تعالى عدد وجوه العقاب ثم حكم بأنه جزاء موافق لأعمالهم ثم عدد فضائحهم، ثم قال: {فَذُوقُواْ} فكأنه تعالى أفتى وأقام الدلائل، ثم أعاد تلك الفتوى بعينها، وذلك يدل على المبالغة في التعذيب قال عليه الصلاة والسلام: «هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار، كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد منه».
بقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 77] فهنا لما قال لهم: {فَذُوقُواْ} فقد كلمهم؟
الجواب: قال أكثر المفسرين: تقدير الآية فيقال لهم: فذوقوا، ولقائل أن يقول على هذا الوجه لا يليق بذلك القائل أن يقول: {فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً} بل هذا الكلام لا يليق إلا بالله، والأقرب في الجواب أن يقال قوله: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ} أي ولا يكلمهم بالكلام الطيب النافع، فإن تخصيص العموم غير بعيد لاسيما عند حصول القرينة، فإن قوله: {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ} إنما ذكره لبيان أنه تعالى لا ينفعهم ولا يقيم لهم وزناً، وذلك لا يحصل إلا من الكلام الطيب.
السؤال الثاني: دلت هذه الآية على أنه تعالى يزيد في عذاب الكافر أبداً، فتلك الزيادة إما أن يقال: إنها كانت مستحقة لهم أو غير مستحقة، فإن كانت مستحقة لهم كان تركها في أول الأمر إحساناً، والكريم إذا أسقط حق نفسه، فإنه لا يليق به أن يسترجعه بعد ذلك، وأما إن كانت تلك الزيادة غير مستحقة كان إيصالها إليهم ظلماً وإنه لا يجوز على الله الجواب: كما أن الشيء يؤثر بحسب خاصية ذاته، فكذا إذا دام ازداد تأثيره بحسب ذلك الدوام، فلا جرم كلما كان الدوام أكثر كان الإيلام أكثر، وأيضاً فتلك الزيادة مستحقة، وتركها في بعض الأوقات لا يوجب الإبراء والإسقاط، والله علم بما أراد.
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد الأخيار وهو أمور:
أولها: قوله تعالى:


{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31)}
أما المتقي فقد تقدم تفسيره في مواضع كثيرة {ومفازاً} يحتمل أن يكون مصدراً بمعنى فوزاً وظفراً بالبغية، ويحتمل أن يكون موضع فوز والفوز يحتمل أن يكون المراد منه فوزاً بالمطلوب، وأن يكون المراد منه فوزاً بالنجاة من العذاب، وأن يكون المراد مجموع الأمرين، وعندي أن تفسيره بالفوز بالمطلوب أولى من تفسيره بالفوز بالنجاة من العذاب، ومن تفسيره بالفوز بمجموع الأمرين أعني النجاة من الهلاك والوصول إلى المطلوب، وذلك لأنه تعالى فسر المفاز بما بعده وهو قوله: {حَدَائِقَ وأعنابا} [النبأ: 32] فوجب أن يكون المراد من المفاز هذا القدر.
فإن قيل الخلاص من الهلاك أهم من حصول اللذة، فلم أهمل الأهم وذكر غير الأهم؟ قلنا: لأن الخلاص من الهلاك لا يستلزم الفوز باللذة والخير، أما الفوز باللذة والخير فيستلزم الخلاص من الهلاك، فكان ذكر هذا أولى.
وثانيها: قوله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8